التقاعد…سقوط آخر ورقة توت في زمن خريف العمر المهني…للقصة بقية

محمد منفلوطي_هبة بريس

هو إذن نهاية العمل، كسقوط آخر ورقة توت في زمن خريف العمر، هو التقاعد، ذلك المفهوم الذي يضع حدا للحياة المهنية لصاحبه، ينزع عنه الصفة ويزيح عنه المسؤوليات، ويطلق سراحه للتفرغ لحياته الشخصية أسرته بمابقي له من عمر…
هكذا هو التقاعد، الذي تختلف نهايته، فمن الناس من يدخله مكرها متحسرا متعلقا بكرسيه وسلطته التي نزعت منه تقاعدا، ومن الناس من يترك وصمة عار في سجله المهني تعسفا وتجبرا وتسلطا ظنا منه أن الكرسي دائم مادامت السموات والأرض على الرغم من أن رأسه اشتعل شيبا، متحسرا على فراق دفء الكرسي تاركا إرثا ثقيلا وراءه…مثل هؤلاء لا نعيرهم اهتماما ولانقيم لشخصهم وزنا….

ومن الناس من يقف شامخا شموخ الجبال وهو يودع رفقاء دربه ورفيقاته، يبادلهم التحية ويتقاسمون الشهادت المؤثرة الممزوجة بدموع الفراق….مثل هؤلاء يهمنا رأيهم ونقبل نصحهم ونقف لهم اجلالا وتكبيرا ونذرف الدموع على فراقهم.

هنا بمجموعة مدارس الزمامرة التابعة للمديرية الإقليمية للتعليم بسطات، هنا حضر الجمع ليودع رجلين من رجالات التربية والتكوين تدريسا وتدبيرا وممارسة مهنية لمختلف أنشطة الحياة المدرسية…

رجلان قضيا عمريهما مكافحين متدحرجين بين سلم المراتب… يتعلق الأمر هنا بالمدير والمربي الحاج حسن زهير الذي تقلد المهام كأستاذ يعلم تلامذته أبجديات الحروف الأولى، قبل أن يتوقف به قطار الحياة تقاعدا وهو يشرف على تدبير إدارة مؤسسته التعليمية بالعالم القروي.

رفيق دربه الذي اشتغل معه كأستاذ بفرعية أولاد مالك، هو الأستاذ حسن صابي، الذي لا يختلف عنه اختلافا في الانضباط والاجتهاد والبعد الانساني، كلاهما يعدان من أعمدة المنظومة التربوية وركائزها الأساسية، ليعلنان معا عن توقف عقارب ساعات عملهما التي قضياها داخل مؤسساتهما التعليمية تدريسا و تدبيرا إداريا و اشرافا.

هي إذن لحظة توقف قطار الحياة المهنية لرجلين غادرانا، بعد ان ألفناهما وألفنا التشاور معهما، وأخذنا النصح منهما في تدبير أمور عملنا اليومي داخل اداراتنا التربوية، تعلمنا الحنكة والصبر والتواصل الفعال على أيديهما، بادلناهما الحب فبادلانا الشيء ذاته، أخذنا منهما الكثير وأعطيا الكثير وغادرا في صمت تقاعدا بعد أن كانا في الصفوف الأمامية يقاومان ويناضلان من أجل نصرة المدرسة العمومية…
إنهما نموذجان من نماذج شتى لشرفاء المهنة الذين أنهوا مشوارهم المهني مرفوعي الرأس،
ليس تبجحا أو تملقا أو تطبيلا كما يذهب إليه البعض ويظن، بل هي الحقيقة والحقيقة الكاملة التي يغض البعض الطرف عنها إما ناسيا أو متناسيا، دون ذكر ولو كلمة شكر في حق هؤلاء بعد مغادرتهم لكراسي مكاتبهم، عدا اشعارهم بإنهاء مهامهم بعبارة لاتليق بهم ولا بتضحياتهم مفادها ” لقد شطب عليكم من الوظيفة العمومية” وا أسفاه.

لحظات مؤثرة، وهما يقفان أمام عائلاتهما، مع تلة من الأستاذات والأساتذة، هي لحظة مؤثرة ذرفت فيها الدموع وتقاسم فيها الجميع صفات وأخلاق المحتفى بهما في مشهد تربوي بامتياز أشاد من خلاله الجميع بالمسار المشرف للمغادرين، وجديتهما واخلاصهما في أداء الوجب المهني وفعاليتهما مع محيط المؤسسة.
إنها لحظات معبرة، تحمل في طياتها رزماتة من الحب المحبة والإخاء والتقدير لهاذين الهرمين الشامخين اللذان ستبقى ذكراهما راسخة ومدوية ومنقوشة بحروف ذهبية في أذهان كل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وداعا أيها الرجلين الرائعين والأبوين الصالحين…وداعا مع متمنياتنا لكما بالصحة والعافية والحياة الكريمة مع أسرتكما وعائلتكما بعد أن أنهيتما مشواركما المهني بشرف تقاعدا
…لك منا ألف تحية وتقدير، وهي رسالة للجهات الوصية على القطاع لتكريم مثل هاته الطاقات التي أعطت الكثير ولو بكلمة شكر تنسيها مشاق العمل كعربون محبة وتقدير على ما أبذلوه من خدمة جليلة لصالح المدرسة العمومية والمنظومة التعليمية ومحيطها التربوي والاجتماعي.

نماذج شتى لرجال ونساء التعليم ممن رفعوا الطبشورة وسقوا ساحات المعركة بدمائهم الزكية انخراطا طوعيا، فارتدوا الوزرة البيضاء، وانتصبوا شامخين أمام السبورة السوداء، دفاعا عن المدرسة العمومية، كمعلمين وأساتذة ومربين، ومنهم من تقلد مناصب إدارية، سلاحهم العلم وزادهم المعرفة وعزة النفس، كان لهم الفضل علينا وعليك وعليهم، ربوا الاجيال ولقنوا الدروس وساهموا في بناء الأمة وصناعة الاجيال…إنهم شرفاء مهنة التعليم الذين يغادرون في صمت حاملين بأيديهم وثيقة كتب عليها ” لقد شطب عليكم من الوظيفة العمومية”، فيا أسفاه.

قراءة الخبر من المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى